كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أجيب: بأنه لا منافاة بين النبوّة والرسالة والوزارة قد كان يبعث في الزمن الواحد أنبياء متعددون، ويؤمرون بأن يؤازر بعضهم بعضًا.
تنبيه:
هارون بدل أو بيان أو منصوب على القطع ووزيرًا مفعول ثان، وقيل: حال والمفعول الثاني معه ويدل على رسالة هارون عليه السلام قوله تعالى: {فقلنا اذهبا إلى القوم} أي: الذين فيهم قوة وقدرة على ما يعانونه وهم القبط فرعون وقومه {الذين كذبوا بآياتنا} فذهبا إليهم بالرسالة فكذبوهما {فدمرناهم تدميرًا} أي: أهلكناهم إهلاكًا أي: فأنت يا محمد لست أوّل من كذب من الرسل فلك أسوة بمن قبلك، فإن قيل: الفاء للتعقيب والإهلاك لم يحصل عقب بعثة موسى وهارون إليهم بل بعده بمدة مديدة؟
أجيب: بأن فاء التعقيب محمولة هنا على الحكم بإهلاكهم لا على الوقوع أو على أنه على إرادة اختصار القصة فاقتصر على حاشيتيها أي: أولها وآخرها لأنهما المقصودان من القصة بطولها أعني إلزام الحجة ببعثة الرسل واستحقاق التدمير بتكذيبهم.
تنبيه:
قوله تعالى: {كذبوا بآياتنا} إن حملنا تكذيب الآيات على الآيات الإلهية فهو ظاهر، وإن حملناه على تكذيب آيات النبوّة فاللفظ، وإن كان للماضي فالمراد به المستقبل، القصة الثانية: قصة نوح عليه السلام المذكورة في قوله تعالى: {وقوم} أي: ودمرنا قوم {نوح لما كذبوا الرسل} كأنهم كذبوا نوحًا ومن قبله من الرسل صريحًا أو كان تكذيبهم لواحد منهم تكذيبًا للجميع بالقوة، لأن المعجزات هي البرهان على صدقهم وهي متساوية الأقدام في كونها خوارق لا يقدر على معارضتها فالتكذيب بشيء منها تكذيب للجميع أولم يروا بعثة الرسل أصلًا كالبراهمة وهم قوم يمنعون بعثة الرسل نسبوا إلى رجل يقال له برهام قد مهد لهم ذلك وقرره في عقولهم، ولأنهم عللوا تكذيبهم بأنه من البشر فلزمهم تكذيب كل رسول من البشر، ثم بين تعالى تدميرهم بقوله تعالى: {أغرقناهم} قال الكلبي: أمطرنا عليهم السماء أربعين يومًا، وأخرج ماء الأرض أيضًا في تلك الأربعين، فصارت الأرض بحرًا واحدًا {وجعلناهم} أي: قوم نوح في ذلك {للناس آية} أي: لمن بعدهم عبرة ليعتبر كل من سلك طريقهم {وأعتدنا} أي: هيأنا في الآخرة {للظالمين} أي: للكافرين، وكان الأصل لهم ولكنه تعالى أظهر تعميمًا وتعليقًا للحكم بالوصف {عذابًا أليمًا} أي: مؤلمًا سوى ما يحل بهم في الدنيا. القصة الثالثة: قصة هود عليه السلام المذكورة في قوله تعالى: {وعادًا} أي: ودمرنا عادًا قوم هود بالريح. القصة الرابعة: قصة صالح عليه السلام المذكورة في قوله: {وثمودًا} أي: ودمرنا ثمودًا قوم صالح بالصيحة. القصة الخامسة المذكورة في قوله تعالى: {وأصحاب الرس} أي: البئر التي هي غير مطوية أي: مبنية قال ابن جرير: والرس في كلام العرب كل محفور مثل البئر والقبر أي: ودمرناهم بالخسف.
واختلف في نبيهم، فقيل: شعيب وقيل غيره، كانوا قعودًا حولها فانهارت بهم وبمنازلهم فهلكوا جميعًا، وقال الكلبي: الرس بئر بفلج اليمامة قتلوا نبيهم فأهلكهم الله تعالى وفلج بفتح الفاء واللام والجيم قرية عظيمة بناحية اليمن من مساكن عاد وبسكون اللام وادٍ قريب من البصرة، وقيل: الرس الأخدود، وقيل: بئر بأنطاكية قتلوا فيها حبيبًا النجار، وقيل: أصحاب حنظلة بن صفوان كانوا مبتلين بالعنقاء وهي أعظم ما يكون من الطير سميت بذلك لطول عنقها، وكانت تسكن جبلهم الذي يقال له: تخ، قيل: هو بتاء فوقية، فخاء معجمة أو مهملة، وبياء تحتية وجيم وهي تنقض على صبيانهم فتخطفهم إن أعوزها الصيد فدعا عليها حنظلة فأصابتها الصاعقة، ثم إنهم قتلوا حنظلة فأهلكوا.
{وقرونًا} أي: ودمرنا قرونًا {بين ذلك} أي: الأمر العظيم المذكور وهو بين كل أمتين من هذه الأمم وقد يذكر الذاكر أشياء مختلفة، ثم يشير إليها بذلك ويحسب الحاسب أعدادًا متكاثرة ثم يقول: فذلك كيت وكيت على معنى فذلك المحسوب أو المعدود، ثم قال الله تعالى: {كثيرًا} وناهيك بما يقول فيه سبحانه وتعالى أنه كثير وأسند البغوي في تفسير أمة وسطًا في البقرة عن أبي سعيد الخدري قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا بعد صلاة العصر فما ترك شيئًا إلى يوم القيامة إلا ذكره في مقامه ذلك حتى إذا كانت الشمس على رءوس النخل وأطراف الحيطان قال: «إنه لم يبق من الدنيا فيما مضى إلا كما بقي من يومكم هذا ألا وإن هذه الأمة توفي سبعين أمة هي آخرها وأكرمها على الله عز وجل»، ثم إنه تعالى قال تسلية لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وتأسية وبيانًا لشريعته بالعفو عن أمته:
{وكلًا} أي: من هذه الأمم {ضربنا} أي: بما لنا من العظمة {له الأمثال} حتى وضح له السبيل وقام من غير شبهة الدليل {وكلًا تبرنا تتبيرًا} أي: أهلكنا إهلاكًا، وقال الأخفش: كسرنا تكسيرًا، وقال الزجاج: كل شيء كسرته وفتته فقد تبرته.
{ولقد أتوا} أي: هؤلاء المكذبون من قومك {على القرية التي أمطرت} أي: وقع إمطارها ممن لا يقدر على الإمطار سواه بالحجارة ولذا قال تعالى: {مطر السوء} مصدر ساء وهي قرى قوم لوط، قال البغوي: كانت خمس قرى، فأهلك الله تعالى أربعًا منها لعملهم الفاحشة، وبختنصر واحدة منهم وهي صغر وكان أهلها لا يعملون العمل الخبيث فإن قيل: لم عبر تعالى بالقرية وهي قرى؟
أجيب: بأنه تعالى قال ذلك تحقيرًا لشأنها في جنب قدرته تعالى وإهانة لمن يريد عذابه. ولانهماكهم على الفاحشة جميعهم حتى كانوا كأنهم شيء واحد وقوله تعالى: {أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون} أي: لا يخافون {نشورًا} أي: بعثًا بعد الموت؛ لأنه استقر في أنفسهم اعتقادهم التكذيب بالآخرة واستمروا عليه قرنًا بعد قرن حتى تمكن منهم ذلك تمكينًا لا ينفع معه الاعتبار إلا من شاء الله.
{وإذا رأوك} أي: مع ما يعلمون من صدق حديثك وكرم أفعالك ولو لم تأتهم بمعجزة فكيف وقد أتيتهم بما بهر العقول {إن} أي: ما {يتخذونك إلا هزوًا} أي: مهزوء بك وعبر تعالى بالمصدر إشارة إلى مبالغتهم في الاستهزاء مع شدة بعده صلى الله عليه وسلم عن ذلك يقولون: {أهذا الذي بعث الله رسولًا} أي: في دعواه محتقرين له أن تأتيه الرسالة، وقولهم.
{إنْ} مخففة من الثقيلة أي: إنه {كاد ليضلنا} أي: يصرفنا {عن آلهتنا} أي: عن عبادتها بفرط اجتهاده في الدعاء إلى التوحيد وكثرة ما يورد مما سبق إلى الذهن أنها حجج ومعجزات {لولا أن صبرنا} أي: بما لنا من الاجتماع والتعاضد {عليها} أي: على التمسك بعبادتها قال الله تعالى: {وسوف يعلمون} أي: في حال لا ينفعهم فيه العمل ولا العلم وإن طالت مدة الإمهال في التمكين {حين يرون العذاب} عيانًا في الآخرة {من أضل سبيلًا} أي: أخطأ طريقًا أهم أم المؤمنون، ولما كان صلى الله عليه وسلم حريصًا على رجوعهم ولزوم ما ينفعهم واجتناب ما يضرهم سلاه تعالى بقوله تعالى متعجبًا من حالهم: {أرأيت} أي: أخبرني {من اتخذ إلهه هواه} أي: أطاعه وبنى عليه دينه، لا سمع حجة ولا نظر دليلًا فإن قيل: لم أخر هواه والأصل قولك: اتخذ الهوى إلهًا؟
أجيب: بأنه ما هو إلا تقديم المفعول الثاني على الأول للعناية كما تقول: علمت منطلقًا زايدًا لفضل عنايتك بالمنطلق، ولما كان لا يقدر على صرف الهوى إلا الله تعالى تسبب عن شدة حرصه على هداهم قوله تعالى: {أفأنت تكون عليه وكيلًا} أي: حافظًا تحفظه من اتباع هواه لا قدرة لك على ذلك.
{أم تحسب أن أكثرهم} أي: هؤلاء المدعوّين {يسمعون} أي: سماع من ينزجر ولو كان غير عاقل كالبهائم {أو يعقلون} أي: كالبهائم ما يرون، وإن لم يكن لهم سمع حتى تطمع في رجوعهم باختيارهم من غير قسر فإن قيل: إنه تعالى لما نفى عنهم السمع والعقل فكيف ذمهم على الإعراض عن الدين وكيف بعث إليهم الرسول، فإن من شرط التكليف العقل؟
أجيب: بأنه ليس المراد أنهم لا يعقلون شيئًا بل المراد أنهم لم ينتفعوا بذلك العقل، فهو كقول الرجل لغيره إذا لم يفهم: إنما أنت أعمى وأصم فإن قيل: لم خص الأكثر بذلك دون الكل؟
أجيب: بأنه كان منهم من آمن، ومنهم من عقل الحق فكابر استكبارًا وخوفًا على الرياسة.
ولما كان هذا الاستفهام مفيدًا للنفي استأنف ما أفهمه بقوله تعالى: {إن} أي: ما {هم إلا كالأنعام} أي: في عدم انتفاعهم بقرع الآيات آذانهم وعدم تدبرهم فيما شاهدوا من الدلائل والمعجزات {بل هم أضل} أي: منها {سبيلًا} لأنها تنقاد لمن يتعهدها، وتميز من يحسن إليها ممن يسيء إليها، وتطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرها وتهتدي لمراعيها ومشاربها، وهؤلاء لا ينقادون لربهم ولا يعرفون إحسانه إليهم من إساءة الشيطان الذي هو عدوهم، ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع ولا يتقون العقاب الذي هو أشد المضار والمهالك، ولا يهتدون للحق الذي هو المشرع الهني والعذب الروي، ولما بين تعالى جهل المعرضين عن دلائل التوحيد وبين فساد طريقهم ذكر أنواعًا من الدلائل على وجود الصانع أولها: الاستدلال بالنظر إلى حال الظل مخاطبًا رأس المخلصين الناظرين هذا النظر حثًا لأهل وده على مثل ذلك بقوله تعالى: {ألم ترَ} أي: تنظر {إلى ربك} أي: إلى صنعه وقدرته {كيف مد الظل} وهو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس بجعله ممدودًا؛ لأنه ظل لا شمس معه، كما قال تعالى في ظل الجنة: {وظل ممدود}.
إذ لم يكن معه شمس وإن كان بينهما فرق وهو الليل لأن ظل الأرض الممدود على قريب من نصف وجهها مدة تحجب نور الشمس عما قابل قرصها من الأرض حتى امتد بساطه وضرب فسطاطه كما حجب ظل ضلالهم أنوار عقولهم وغفلة طباعهم نفوذ أسماعهم {ولو شاء لجعله} أي: الظل {ساكنًا} أي: دائمًا ثابتًا لا يزول ولا تذهبه الشمس لاصقًا بأصل كل مظل من جبل وبناء وشجر غير منبسط فلم ينتفع به أحد، سمى انبساط الظل وامتداده تحركًا منه وعدم ذلك سكونًا لكنه تعالى لم يشأ بل جعله متحركًا كما يسوق الشمس له، وقال أبو عبيدة: الظل ما نسخته الشمس وهو بالغداة، والفيء ما نسخ الشمس وهو بعد الزوال سمي فيئًا؛ لأنه فاء من جانب المشرق إلى جانب المغرب {ثم جعلنا الشمس عليه} أي: الظل {دليلًا} أي: أن الناس يستدلون بالشمس وأحوالها في مسيرها على أحوال الظل من كونه ثابتًا في مكان أو زائلًا ومتسعًا أو متقلصًا فلو لم تكن الشمس لما عرف الظل ولولا النور لما عرفت الظلمة، والأشياء تعرف بأضدادها.
{ثم قبضناه} أي: الظل {إلينا} أي: إلى الجهة التي أردنا لا يقدر أحد غيرنا أن يحوله إلى جهة غيرها، والقبض جمع المنبسط من الشيء ومعناه أن الظل يعم جميع الأرض قبل طلوع الشمس، فإذا طلعت قبض الله الظل {قبضًا يسيرًا} أي: على مهل، وفي هذا القبض اليسير شيئًا بعد شيء من المنافع ما لم يعد ولا يحصى، ولو قبض دفعة واحدة لتعطلت أكثر مرافق الناس بالظل والشمس جميعًا، وقيل: المراد من قبضها يسيرًا قبضها عند قيام الساعة، وذلك بقبض أسبابها وهي الأجرام التي تلقي الظلال، وقوله تعالى: {يسيرًا} كقوله تعالى: {حشر علينا يسير} فإن قيل: ثم في هذين الموضعين كيف موقعها؟.
أجيب: بأن موقعها بيان تفاضل الأمور الثلاثة كان الثاني أعظم من الأول والثالث أعظم منهما تشبيهًا لتباعد ما بينهما في الفضل بتباعد ما بين الحوادث في الوقت، ولما تضمنت هذه الآية الليل والنهار وهو النوع الثاني قال تعالى مصرحًا بهما:
{وهو} أي: ربك المحسن إليك وحده {الذي جعل} دليلًا على الحق وإظهارًا للنعمة على الخلق {لكم الليل} أي: الذي تكامل به مد الظل {لباسًا} أي: ساترًا للأشياء، شبه ظلامه باللباس في ستره {والنوم سباتًا} أي: راحة للأبدان بقطع المشاغل، وهو عبارة عن كونه موتًا أصغر طاويًا لما كان من الإحساس قاطعًا لما كان من الشعور والتقلب فيه دلائل لأهل البصائر، قال البغوي وغيره: وأصل السبت القطع، وفي جعله تعالى لذلك من الفوائد الدينية والدنيوية ما لا يعد ولا يحصى، وكذا في قوله تعالى: {وجعل} أي: وحده {النهار نشورًا} أي: منشورًا فيه لابتغاء الرزق وغيره، وفي ذلك إشارة إلى أن النوم واليقظة أنموذجان للموت والنشور. يحكى أن لقمان قال لابنه: يا بني كما تنام فتوقظ كذلك تموت فتنشر، ثم ذكر النوع الثالث بقوله تعالى: {وهو} أي: وحده {الذي أرسل الرياح} وقرأه ابن كثير بالإفراد لإرادة الجنس وقرأه الباقون بالجمع لكونها تارة صبا وتارة دبورًا وتارة شمالًا وتارة جنوبًا وغير ذلك، ويسن الدعاء عند هبوب الريح ويكره سبها لخبر «الريح من روح الله تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب فإذا رأيتموها فلا تسبوها واسألوا الله خيرها، واستعيذوا بالله من شرها» رواه أبو داود وغيره بإسناد حسن، وقوله تعالى: {نشرًا} قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو بضم النون والشين أي: ناشرات للسحاب، وقرأه ابن عامر بضم النون وسكون الشين على التخفيف، وقرأه عاصم بالباءالموحدة مضمومة وسكون الشين جمع بشور بمعنى مبشر، وقرأه حمزة والكسائي بفتح النون وسكون الشين على أنه مصدر وصف به {بين يدي رحمته} أي: قدام المطر، ولما كان الماء مسببًا عما تحمله الريح من السحاب أتبعه به بقوله تعالى: {وأنزلنا} أي: بما لنا من العظمة {من السماء} أي: من السحاب أو الجرم المعهود {ماء} ثم أبدل منه بيانًا للنعمة به، فقال تعالى: {طهورًا} أي: طاهرًا في نفسه مطهرًا لغيره كما قال تعالى في آية أخرى: {ليطهركم به}، فهو اسم لما يتطهر به كالوضوء لما يتوضأ به، وكالسحور اسم لما يتسحر به والفطور اسم لما يفطر به. قال صلى الله عليه وسلم في البحر: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» أراد به المطهر فالماء المطهر؛ لأنه يطهر الإنسان من الحدث والخبث.